محاكم التحقيق تاريخ مظلم واستغلال دين؛ هو عنوان ضمن سلسلة مقالات شبة جزيرة آيبريه التي احتضنت أحداثها. فترة زمنية مضت وشهدت انحطاط أدمي، وظلم بشري جسده توافق كهنوتي وسياسي. كُتب التاريخ في توافر وتواتر حكايتها تذكر؛ أنه في نوفمبر عام 1478م وصلت موافقة البابا على تأسيس محاكم التحقيق، عقبها البدء في بناء هيكلها الذي أكتمل أثناء حكم إيزابيلا 1451-1504م. إيزابيلا لمن تتبع سيرتها تُعد أكثر النساء شرا، وهي التي استولت على مملكة قشتالة عام 1474م، واتصفت بدهاء وتعصب مذهبي، وتنبذ كل ما يتعلق بالعرب والمسلمين وغير الكاثوليك.
إيزابيلا هذه أصدرت مرسوما شهيرا تطالب رعايا المملكة بتقديم كل المساعدات الممكنة لتسهيل مهمة عمال محاكم التحقيق، وحضّهم بالتالي على ان يكونوا عيون المحاكم وآذانها، فأصبحت المحاكم ذراع أخطبوطيه امتدت بسرية وكتمان شديدين إلى أعداء الكاثوليكية كما يزعمون عبر حواجز لم يكن اختراقها سهلا في الدول الأوربية الأخرى.
لكن إيزابيلا ومن جاء بعدها كانوا يستطيعون مدّ ذراعهم عبر هذه المؤسسة الدينية نفسها، وضرب أعداء السلطة باسم الكاثوليكية إذ أن لا فرق بين السلطة والكاثوليكية حينها، إذ أعطى البابا إيزابيلا لقب الملكة الكاثوليكية، وكوّن ارتباط عضوي لصيق بين مصالح الدولة ومصالح الكنيسة كمؤسسة طالت يدها خصوم الكاثوليكية في ممالك قشتالة وآرغون.
وفّر هذا الارتباط آنذاك أكبر جهاز مخابرات عرفه العالم. وربما جنّد القسم الأكبر من نحو ثمانية ملايين شخص كانوا يسكنون إسبانيا في القرن السادس عشر. العقوبات كانت ترمي إلى إصلاح دين المتهم، وإعادته إلى تيار الكاثوليكية مثل قبول التردد على الكنيسة، وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر، وهذه عن طريق الاقناع، وإذا لم ينفع الاقناع يكون الاجبار عن طريق التعذيب بما فيه الإحراق لضمان توبتهم، والتكفير عن سيئاتهم وتحويلهم بذلك إلى شمعة من نور طاهر من الخطيئة.
وَمِمَّا يذُكر في المدونات التاريخية؛ أن المحاكم كانت تأمر من تفرج عنه بتوقيع تعهّد، بعدم البوح باي شيء رَآه أو سمعه خلال الاعتقال أو التعذيب تحت طائلة إعادته إلى السجون ومراكز التحقيق. ومارست هذه المحاكم على الهراطقة (المخالفون في الاختيار والأفكار) من المسيحيين عملية تطهير وذلك بإعادة تعمّيدهم وكثلكتهم.
نظام عمل محاكم التحقيق هو استلام أي شكوى أو وشاية تَردُها أو إخبارية تَصلُها، فتبدأ بالمتابعة والتحري، حتى لو أقتضى الأمر مداهمة المتهمين في جنح الليل باستخدامهم مُعرفين يطرقون الأبواب. عمال المحاكم عملوا آلة تشبه الإجاصة يمكن توسيعها أو تضييقها بواسطة مفتاح خاص تستخدم إذا حاول المتهم الصياح لطلب النجدة من جيرانه فما أن يفتح فمه حتى يكون العمال دسوا الآلة في فمه وأخذوه بالقوة.
وفي المحاكم يُحجز الناس فلا يستطيع أهل المتهم مقابلته أو الاتصال به، وربما أجتاح الأهالي الخوف من أن يكون دورهم تاليا، فينكروا صلتهم بالمتهم حين الإفادة والسؤال عنه، فربما أطلقه عمال المحاكم بعد ثبوت براءته فعاد إلى بيته، وربما صارا عبدا ونُقل إلى العالم الجديد على ظهر السفن الإسبانية التي تخدم مستعمراتهم وربما لن تراه أبنته أو أمّه ثانية إلا وهو يحترق ببطء.
وللمحاكم أساليب تعذيب عضوية نفسانية لانتزاع الاعتراف من المتهم تمهيدا لمحاكمته وتوقيع العقوبات علية. هذه العقوبات ليس لها قانون يُعتمد علية، والقاضي متروك له تقدير جرم المتهم والعقوبات المناسبة، وليس هناك حق الاعتراض على الحكم الصادر أو تغييره، بل لا يستطيع البابا إلغاء حكم لا يريد المحقق العام إلغاءه.
كتب في القرن التاسع عشر الروسي دوستويفسكي، والأمريكي ادغار ألان بو عن فضائع محاكم التحقيق الإسبانية، وصوروا أجواء أقبية التعذيب وأنواعها، والكوامن النفسانية للقائمين عليها في روايات وقصص مُثيرة. كثير من النقاد والباحثين الغربيين وجدوا صعوبة الدفاع عن محاكم التحقيق فالدلائل والوثائق والأدوات والآلات التي رصدها الباحثون تبقى شاهد على تلك الحقبة المظلمة. والتي تفنن فيها شياطين البشر بما يتعدى الخيال تصوره في إذلال وتنكيل وإسقاط للآدمية أكثر من 300,000 أندلسي، ومئات البروتستانت ومئات اليهود تم زجهم في محاكم التحقيق خلال القرن السادس عشر.
كيف انتهت محاكم التحقيق؟
نتابع..
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |